خيار البؤساء قصة قصيرة للكاتب يوسف الفاران
نحن خمسة أخوة ثلاثة صبية وفتاتان، عشنا حياة اليتم بكل تفاصيلها، بعد أن اختار أبي أن نكون بلا أب.
نعم هكذا كان اختيار والدي الذي قرر أن ينتحر فجأة وأنا في الخامسة من عمري حتى أني لا أذكر ملامح وجهه جيدا، كلما تذكرته تذكرت كمية الفرح التي تغمرنا حين يعود إلى المنزل كل مساء، كان طيب القلب نشعر بحنانه وعطفه، ونستمد قوتنا منه، وقد كان لغز انتحاره محيراً لكل من عرفه!.
حين كبرت وأصبحت أباً لثلاثة أطفال بحثت عن السبب الذي دفع والدي للانتحار رغم تعلقه بنا وتعلقنا به، كانت التساؤلات تقتحم تفكيري كل يوم (كيف له أن يتخذ قراراً كهذا ونحن بأمس الحاجة إليه؟! وما السبب الذي جعله يضحي بحياته وبنا فجأة دون مقدمات أو أسباب واضحة؟!)
حين عدت لذاكرتي والظروف التي عشناها وقسوة العيش التي ألمت بنا علمت أن الفقر هو من دفعه للانتحار، فقد أصبح عاجزاً على توفير متطلبات الحياة لنا، وقد كان يتألم وهو يشاهدنا نتلوى من الجوع كل مساء، فكان يحاول مواساتنا تارة وتارة يغرينا بوعود لا تتحقق عن جلب الطعام اللذيذ والهدايا الكثيرة، كانت وعوده تفرحنا في البداية؛ لكنها لم تعد كذلك لأنها تكررت دون فائدة.
ورغم ذلك شعرت بالألم على أبي الذي ضحى بحياته كي لا يرانا نتألم، شعرت بالألم لحاله التي لم تصمد أمام الحياة، فاختار الانتحار كحل بائس يقي نفسه وجع الضمير، لم يستطع مواجهة الدموع في عيوننا، أدركت حينها أننا شاركنا الحياة بثقلها عليه، فلو لم نكن موجودين لما شعر بالألم ولم ينتحر.
كنت أعيش حالة تناقض مر، فمرات أرى أن أبي محقاً في قراره، واحياناً أرى أنه قد أخطأ بحقنا وحق نفسه.
يقطع حبل أفكاري نعاس ثقيل اغفى على أثره،
في المنام أرى أبي يصطحبني في جوٍ ماطر الى كوخ في قمة الجبل يخبرني أن هذا الكوخ سيحمينا من الحياة حيث لا جوع ولا فقر هناك!،
فجأة!
أستيقظ على صوت بكاء أطفالي وهم يتلون من الجوع، أتساءل بنفسي والألم يعتصرني: أأفعل مثل أبي؟!
تمت...
من كتاب: غيوم في سماء قاحلة
للكاتب: يوسف الفاران